وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
وقوله: ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) أي: ولو أنـزلنا مع الرسول
البَشَرِيّ ملكًا، أي: لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيًا لكان على هيئة رجل لتُفْهَم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري، كما قال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا [الإسراء: 95]، فمن رحمة الله تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم، ليدعو بعضهم بعضا، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال، كما قال تعالى: لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ الآية [آل عمران: 164].
قال الضحاك، عن ابن عباس في [ قوله: ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا ) ]
الآية. يقول: لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل؛ لأنهم لا يستطيعون
النظر إلى الملائكة من النور ( وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ )
أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون. وقال الوالبي عنه: ولشبهنا عليهم.
وقوله: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) هذا
تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ووعد له
وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة.
ثم قال: ( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أي: فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله
بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله
وعاندوهم، من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا، مع ما ادَّخَر لهم من
العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نَجَّى رسله وعباده المؤمنون.
قُلْ
لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ
أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه قد كتب على نفسه
المقدسة الرحمة، كما ثبت في الصحيحين، من طريق الأعْمَش، عن أبي صالح، عن
أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش، إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي"
وقوله: ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ )
هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم
معلوم [وهو يوم القيامة] الذي لا ريب فيه ولا شك عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون.
وقال ابن مَرْدُوَيه عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن أحمد بن
إبراهيم، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عُقْبَة، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا
حسين بن محمد، حدثنا مِحْصَن بن عقْبَة اليماني، عن الزبير بن شَبِيب، عن
عثمان بن حاضر، عن ابن عباس قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الوقوف بين يدي رب العالمين، هل فيه ماء؟ قال: "والذي نَفْسِي بيَدِه، إن
فيه لماءً، إن أولياء الله ليردون حِياضَ الأنبياء، ويَبْعَثُ الله تعالى
سبعين ألف مَلَكٍ في أيديهم عِصِيّ من نار، يَذُودون الكفار عن حياض
الأنبياء".
هذا حديث غريب وفي الترمذي: "إن لكل نبي حَوْضًا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة"
ولهذا قال: ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) [أي يوم القيامة] ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي: لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم.
ثم قال تعالى ( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي: كل
دابة في السموات والأرض، الجميع عباده وخلقه، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره،
ولا إله إلا هو، ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم.
ثم قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه المستقيم: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) كَمَا قَالَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ
[الزمر: 64]، والمعنى: لا أتخذ وليًا إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر
السموات والأرض، أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سَبَق.
( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) أي: وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 -58].
وقرأ بعضهم هاهنا: ( وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ ) الآية أي: لا يأكل.
وفي حديث سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة [رضي الله عنه]
قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
فانطلقنا معه، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال: "الحمد لله الذي يُطعِم ولا يَطْعَم، ومَنَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسَقانا وكلّ بَلاء حَسَن أبلانا، الحمد لله غير مُودّع
ولا مكافَأ ولا مكفور ولا مُسْتَغْنًى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من
الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبَصَّرنا
من العَمَى، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين"
( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) أي: من
هذه الأمة ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ ) يعني: يوم القيامة.
( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ) يعني: العذاب ( يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ) يعني: فقد رحمه الله ( وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) كما قال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185]، والفوز: هو حصول الربح ونفي الخسارة.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
يقول تعالى مخبرًا أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما
يشاء، لا مُعَقِّب لحكمه، ولا رَادَّ لقضائه: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) كما قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ الآية [فاطر: 2] وفي الصحيح
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لا مانع لِما
أَعْطَيْت، ولا معطِيَ لما مَنَعْتَ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ"
؛ ولهذا قال تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) أي: هو الذي
خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له
الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته الأشياء،
واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره
( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) أي: في جميع ما يفعله ( الْخَبِيرُ ) بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق.