قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ
مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(64)
وهذا كما قالوا له في يوسف:
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
؛ ولهذا قال لهم: ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ
عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) أي: هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من
قبل، تغيبونه عني، وتحولون بيني وبينه؟ ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حفظًا ) وقرأ
بعضهم: "حَافِظًا" < 4-399 >
( وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أي: هو أرحم الراحمين بي، وسيرحم كبري
وضعفي ووجدي بولدي، وأرجو من الله أن يرده علي، ويجمع شملي به، إنه أرحم
الراحمين.
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا
وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ
ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
(65)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
(66)
يقول تعالى: ولما فتح إخوة يوسف متاعهم، وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم، وهي
التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم، فلما وجدوها في متاعهم (
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ) ؟ أي: ماذا نريد؟ ( هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) كما قال قتادة. ما نبغي وراء هذا ؟ إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفي لنا الكيل.
( وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) أي: إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى
أهلنا، ( وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنـزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ) وذلك أن يوسف،
عليه السلام، كان يعطي كل رجل حمل بعير. وقال مجاهد: حمل حمار. وقد يسمى في
بعض اللغات بعيرا، كذا قال.
( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) هذا من تمام الكلام وتحسينه، أي: إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا.
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ) أي: تحلفون بالعهود والمواثيق، ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه.
( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) أكده عليهم فقال: ( اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ )
قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك؛ لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة، التي لا غنى لهم عنها، فبعثه معهم.
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ
أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
(67)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي
عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ
قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
(68) < 4-400 >
يقول تعالى، إخبارا عن يعقوب، عليه السلام: إنه أمر بنيه لما جهزهم مع
أخيهم بنيامين إلى مصر، ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب
متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس، ومحمد بن كعب، ومجاهد، والضحاك، وقتادة،
والسُّدِّي: إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة،
ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم؛ فإن العين حق، تستنـزل
الفارس عن فرسه.
وروى ابن أبي حاتم، عن إبراهيم النَّخّعي في قوله: ( وَادْخُلُوا مِنْ
أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) قال: علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب.
وقوله: ( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) أي: هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه ؛ فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع
( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ
أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) قالوا: هي دفع إصابة العين
لهم، ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ ) قال قتادة والثوري:
لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير: لذو علم لتعليمنا إياه، ( وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(69)
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين،
فأدخلهم دار كرامته ومنـزل ضيافته، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان،
واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه، وما جرى له، وعَرّفه أنه أخوه، وقال له: "لا
تبتئس" أي: لا تأسف على ما صنعوا بي، وأمره بكتمان ذلك عنهم، وألا يطلعهم
على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده،
مُعزّزًا مكرما معظما.