[right]وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
ثم قال تعالى رادًا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) أي: نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية، وهو يحبنا. ونقلوا عن كتابهم أن " < 3-69 > " الله [تعالى] قال لعبده إسرائيل: "أنت ابني بكري". فحملوا هذا على غير تأويله، وحَرّفوه. وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم، وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني: ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى، عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه وحظْوتهم عنده، ولهذا قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
قال الله تعالى رادا عليهم: ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) أي: لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه، فلم أعَد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟. وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا الصوفي هذه الآية: ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ )
وهذا الذي قاله حسن، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن حُمَيْد، عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يُوْطَأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. قال: فَخفَّضَهُم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا والله ما يلقي حبيبه في النار". تفرد به.
[وقوله] ( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) أي: لكم أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو تعالى هو الحاكم في جميع عباده ( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) أي: هو فعال لما يريد، لا مُعَقِّب لحكمه وهو سريع الحساب. ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) أي: الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه، ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) أي: المرجع والمآب إليه، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور.
[و] قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمَة، أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد! نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنـزل [الله] فيهم: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) إلى آخر الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله [تعالى] ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) أما قولهم: ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن " < 3-70 > " ولدك -بكرك من الولد-فيدخلهم النار فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم يناد مناد أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل. فأخرجوهم فذلك قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [ آل عمران : 24 ]
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى: إنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا خاتم النبيين، الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم؛ ولهذا قال: ( عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) أي: بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة، كم هي؟ فقال أبو عثمان النَّهْديّ وقتادة -في رواية عنه-: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة، وقال مَعْمَر، عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة. وقال: الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى، عليه السلام عن الشعبي أنه قال: ومنْ رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة.
والمشهور هو الأول، وهو أنه ستمائة سنة. ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة. ولا منافاة بينهما، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين؛ ولهذا قال تعالى في قصة أصحاب الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [ الكهف : 25 ] أي: قمرية، لتكميل الثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب. وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد [صلى الله عليه وسلم] خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أولى الناس بابن مريم؛ لأنه لا نبي بيني وبينه" هذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى [عليه السلام] نبي، يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القضاعي وغيره.
والمقصود أن الله [تعالى] بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وطُمُوس من السبل، " < 3-71 > " وتَغَير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عَمَم، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام حدثنا قتادة، عن مطَرِّف، عن عياض بن حِمَار المُجَاشِعِيِّ، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: "وإن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمني في يومي هذا: كل مال نَحَلْته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضَلَّتْهُم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطانا، ثم إن الله، عز وجل، نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ، عجَمَهم وعَرَبَهُم، إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنـزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويَقْظان، ثم إن الله أمرني أن أُحَرِّقَ قريشا، فقلت: يا رب، إذن يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خُبْزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغْزِك، وأنفق عليهم فَسَنُنفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقْسِطٌ مُتصدِّق موفق ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عَفِيف فقير متصدق، وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تَبْعًا أو تُبعاء -شك يحيى-لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ وإن دَقَّ إلا خانه، ورجل لا يُصْبِح ولا يُمْسِي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك"، وذكر البخيل أو الكذب، "والشِّنْظير: الفاحش".
ثم رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي من غير وجه، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشّخير. وفي رواية سعيد عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف. وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده: أن قتادة لم يسمعه من مطرف، وإنما سمعه من أربعة، عنه. ثم رواه هو، عن روح، عن عوف، عن حكيم الأثرم، عن الحسن قال: حدثني مطرف، عن عياض بن حمَار، فذكره. و [كذا] رواه النسائي من حديث غُنْدَر، عن عوف الأعرابي به.
والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل". وفي لفظ مسلم: "من أهل الكتاب". وكان الدين قد التبس على أهل " < 3-72 > " الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهدى الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحَجَّة البيضاء، والشريعة الغرَّاء؛ ولهذا قال تعالى: ( أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ) أي: لئلا تحتجوا وتقولوا -: يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه-ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
قال ابن جرير: معناه: إني قادر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام، فيما ذكر به قومه نعَمَ الله عليهم وآلاءه لديهم، في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة، فقال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ) أي: كلما هلك نبي قام فيكم نبي، من لدن أبيكم إبراهيم وإلى من بعده. وكذلك كانوا، لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته، حتى ختموا بعيسى، عليه السلام، ثم أوحى الله [تعالى] إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله، المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم، عليه السلام، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس، في قوله: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) قال: الخادم والمرأة والبيت.
وروى الحاكم في مستدركه، من حديث الثوري أيضا، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس " < 3-73 > " قال: المرأة والخادم ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال: الذين هم بين ظَهرانيهِم يومئذ، ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي مَلِكًا.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وَهْب، أنبأنا أبو هانئ؛ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. فقال: إن لي خادما. قال فأنت من الملوك.
وقال الحسن البصري: هل الملك إلا مركب وخادم ودار؟
رواه ابن جرير. ثم روي عن منصور والحكم، ومجاهد، وسفيان الثوري نحوًا من هذا. وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران.
وقال ابن شَوْذَب: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم، واستؤذن عليه، فهو ملك.
وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم.
وقال السُّدِّي في قوله: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) قال: يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لَهِيعَة، عن دَرَاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة، كُتِب ملكا".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال ابن جرير: حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا أبو ضَمْرَة أنس بن عياض، [قال] سمعت زيد بن أسلم يقول: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له بيت وخادم فهو ملك".
وهذا مرسل غريب. وقال مالك: بيت وخادم وزوجة.
" < 3-74 > "
وقد ورد في الحديث: "من أصبح منكم مُعَافى في جسده، آمنا في سِربه، عنده قُوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها". اضغط هنا
وقوله: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعني عالمي زمانكم، فكأنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الجاثية : 16 ] وقال تعالى إخبارًا عن موسى لما قالوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الأعراف : 138-140 ]
والمقصود: أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجا، وأكرم نبيا، وأعظم ملكا، وأغزر أرزاقا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع مملكة، وأدوم عزا، قال الله [عز وجل] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آل عمران : 110 ] وقال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ البقرة : 143 ] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها، عند الله، عند قوله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ من سورة آل عمران.
وروى ابن جرير عن ابن عباس، وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) مع هذه الأمة. والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا.
وقيل: المراد: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعني بذلك: ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، وتَظلَّلهم من الغمام وغير ذلك، مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم.
ثم قال تعالى مخبرًا عن تحريض موسى، عليه السلام، لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس، الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى [عليه السلام] فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين، قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول الله موسى، عليه السلام، بالدخول " < 3-75 > " إليها، وبقتال أعدائهم، وبَشَّرهم بالنصرة والظفر عليهم، فَنَكَلُوا وعَصوْا وخالفوا أمره، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين، لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد، مُدّة أربعين سنة، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله [تعالى] فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال: ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) أي: المطهرة.
قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) قال: هي الطور وما حوله. وكذا قال مجاهد وغير واحد.
وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد البقال، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: هي أريحا. وكذا ذكر غير واحد من المفسرين.
وفي هذا نظر؛ لأن أريحا ليست هي المقصود بالفتح، ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس، وقد قدموا من بلاد مصر، حين أهلك الله عدوهم فرعون، [اللهم] إلا أن يكون المراد بأريحا أرض بيت المقدس، كما قاله -السدي فيما رواه ابن جرير عنه-لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الغَوْر شرقي بيت المقدس.
وقوله تعالى: ( الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) أي: التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل: أنه وراثة من آمن منكم. ( وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ) أي: ولا تنكلوا عن الجهاد ( فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) أي: اعتذروا بأن في هذه البلدة -التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها-قوما جبارين، أي: ذوي خلَقٍ هائلة، وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مُصَاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها وإلا فلا طاقة لنا بهم.
وقد قال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار، حدثنا سفيان قال: قال أبو سعيد قال عِكْرَمَة، عن ابن عباس قال: أمرَ موسى أن يدخل مدينة الجبارين. قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة -وهي أريحا-فبعث إليهم اثني عشر عينًا، من كل سبط منهم عين، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة فرأوا أمرًا عظيما من هيئتهم وجُثَثهم وعِظَمِهم، فدخلوا حائطا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار. وينظر إلى آثارهم، فتتبعهم فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، حتى التقت الاثنى عشر كلهم، فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، فاذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم.
" < 3-76 > "
وفي هذا الإسناد نظر.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لما نزل موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا -وهم النقباء الذين ذكر الله، فبعثهم ليأتوه بخبرهم، فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم موسى، بعثنا نأتيه بخبركم. فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل، فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدروا قَدْر فاكهتهم فلما أتوهم قالوا: يا موسى، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهاد، حدثني يحيى بن عبد الرحمن قال: رأيت أنس بن مالك أخذ عصا، فذرع فيها بشيء، لا أدري كم ذرع، ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا وخمسين، ثم قال: هكذا طول العماليق.
وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأنه كان فيهم عوج بن عنق، بنت آدم، عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع، تحرير الحساب! وهذا شيء يستحي من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله [تعالى] خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن".
ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زِنْية، وأنه امتنع من ركوب السفينة، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نوح : 26 ] وقال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ [ الشعراء : 119-120 ] وقال تعالى: [قَالَ] لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ [ هود : 43 ] وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر وولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له: "عوج بن عنق" نظر، والله أعلم.
وقوله: ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ) أي: فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى، عليه السلام، حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه.
" < 3-77 > "
وقرأ بعضهم: ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ ) أي: ممن لهم مهابة وموضع من الناس. ويقال: إنهما "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا"، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطية، والسُّدِّي، والربيع بن أنس، وغير واحد من السلف، والخلف، رحمهم الله، فقالا ( ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي: متى توكلتم على الله واتبعتم أمره، ووافقتم رسوله، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلدة التي كتبها الله لكم. فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا