وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
(53)
تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء، ( إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي ) أي: إلا من عصمه الله تعالى، ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . < 4-395 >
وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد
حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن
تَيميَّة، رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة
وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف، عليه السلام، من قوله:
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته
بِالْغَيْبِ الآيتين أي: إنما رَدَدْتُ الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
[الآية] وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن
سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: لما جمع الملك النسوة فسألهن: هل
راودتن يوسف عن نفسه؟
قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ
امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ يُوسُفُ ( ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ] )
قال: فقال له جبريل، عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به. فقال: (
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ )
وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعكرمة، وابن أبي الهُذَيل،
والضحاك، والحسن، وقتادة، والسُّدي. والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق
الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف، عليه السلام،
عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
(54)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
(55)
يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقق براءة يوسف، عليه السلام،
ونـزاهة عرْضه مما نسب إليه، قال: ( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
لِنَفْسِي ) أي: أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) أي:
خاطبه الملك وعرفه، ورأى فضله وبراعته، وعلم ما هو عليه من خَلْق وخُلُق
وكمال قال له الملك: ( إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ) أي:
إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة، فقال يوسف، عليه السلام: ( اجْعَلْنِي
عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) مدح نفسه، ويجوز للرجل
ذلك إذا جُهِل أمره، للحاجة. وذكر أنه ( حَفِيظٌ ) أي: خازن أمين، (
عَلِيمٌ ) ذو علم وبصرَ بما يتولاه .
قال شيبة بن نعامة: حفيظ لما استودعتني، عليم بِسِني الجَدْب . رواه ابن أبي حاتم.
وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه، ولما في ذلك من المصالح للناس وإنما سأل أن يُجْعَل على < 4-396 >
خزائن الأرض، وهي الأهرام التي
يجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، ليتصرف
لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد، فأجيب إلى ذلك رغبةً فيه، وتكرِمَةً
له؛ ولهذا قال تعالى:
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ
يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ
(56)
وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
(57)
يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ) أي: أرض مصر، ( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ )
قال السُّدِّي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يتصرف فيها كيف يشاء.
وقال ابن جرير: يتخذ منها منـزلا حيث يشاء
بعد الضيق والحبس والإسار. ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) أي: وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته،
وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز؛ فلهذا أعقبه الله عز وجل السلامة
والنصر والتأييد، ( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ
الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يخبر تعالى أن
ما ادخره الله لنبيه يوسف، عليه السلام، في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل، مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا كما قال تعالى في حق سليمان، عليه السلام: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
[ص: 39، 40].
والغرض أن يوسف، عليه السلام، ولاه مَلك مصر الريانُ بن الوليد الوزارة
في بلاد مصر، مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته، وأسلم الملك على
يدي يوسف، عليه السلام.
قاله مجاهد. وقال محمد بن إسحاق لما قال يوسف للملك:
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
قال الملك: قد فعلت. فولاه فيما ذكروا عمل إطفير وعزل إطفير
عما كان عليه، يقول الله عز وجل: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ
نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) فذكر لي -والله أعلم -أن
إطفير هَلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوَّج يوسف امرأة إطفير
راعيل، وأنها حين دخلت عليه قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ قال:
فيزعمون أنها قالت: أيها الصديق، لا تلمني، فإني كنت امرأة كما ترى حسناء
جميلة، ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله
في حسنك وهيئتك على ما رأيت، فيزعمون أنه وجدها عذراء، فأصابها فولدت له رجلين أفرائيم بن يوسف، وميشا بن < 4-397 >
يوسف وولد لأفرائيم نون، والد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب، عليه السلام.
وقال الفضيل بن عياض: وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق، حتى مَرّ
يوسف، فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا
بمعصيته.
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
(58)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ
أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ
(59)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ
(60)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ
(61)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
(62)
ذكر السُّدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما من المفسرين: أن السبب الذي أقدم
إخوة يوسف بلاد مصر، أن يوسف، عليه السلام، لما باشر الوزارة بمصر، ومضت
السبع السنين المخصبة، ثم تلتها سنينُ الجدب، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها،
ووصل إلى بلاد كنعان، وهي التي فيها يعقوب، عليه السلام، وأولاده. وحينئذ
احتاط يوسف، عليه السلام، للناس في غلاتهم، وجمعها أحسن
جمع، فحصل من ذلك مبلغ عظيم، وأهراءَ متعددة هائلة، وورد عليه الناس من
سائر الأقاليم والمعاملات، يمتارون لأنفسهم وعيالهم، فكان لا يعطى الرجل
أكثر من حمل بعير في السنة. وكان، عليه السلام، لا يشبع نفسه ولا يأكل هو
والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار، حتى يتكفى الناس بما في
أيديهم مدة السبع سنين. وكان رحمة من الله على أهل مصر.
وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال، وفي
الثانية بالمتاع، وفي الثالثة بكذا، وفي الرابعة بكذا، حتى باعهم بأنفسهم
وأولادهم بعدما تَمَلَّك عليهم جميع ما يملكون، ثم أعتقهم وردّ عليهم
أموالهم كلها، الله أعلم بصحة ذلك، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوةُ يوسف، عن أمر أبيهم لهم في
ذلك، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه، فأخذوا معهم بضاعة
يعتاضون بها طعاما، وركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب، عليه السلام، عنده
بنيامين شقيق يوسف، عليهما
السلام، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف. فلما دخلوا على يوسف، وهو جالس في
أبهته ورياسته وسيادته، عرفهم حين نظر إليهم، ( وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ )
أي: لا يعرفونه؛ لأنهم فارقوه وهو صغير حدث فباعوه للسيارة، ولم يدروا أين يذهبون به، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، فلهذا لم يعرفوه، وأما هو فعرفهم. < 4-398 >
فذكر السدي وغيره: أنه شرع يخاطبهم، فقال لهم كالمنكر عليهم: ما أقدمكم
بلادي؟ قالوا: أيها العزيز، إنا قدمنا للميرة. قال: فلعلكم عيون؟ قالوا:
معاذ الله. قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان، وأبونا يعقوب نبي
الله. قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم، كنا اثني عشر، فذهب أصغرنا، هلك
في البَرِيَّة، وكان أحبنا إلى أبيه، وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه. فأمر بإنـزالهم وإكرامهم.
( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي: وَفَّاهم كيلهم، وحمل لهم
أحمالهم قال: ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم صدقكم فيما ذكرتم، (
أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنـزلِينَ )
يرغبهم في الرجوع إليه، ثم رَهَّبَهم فقال: ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ) أي: إن لم تقدموا به معكم
في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة، ( وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُوا
سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) أي: سنحرص على مجيئه
إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه.
وذكر السدي: أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم. وفي هذا نظر؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا، وهذا لحرصه على رجوعهم.
( وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ) أي: غلمانه ( اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ )
وهي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها ( فِي رِحَالِهِمْ ) أي: في أمتعتهم
من حيث لا يشعرون، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) بها.
قيل: خشي يوسف، عليه السلام، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة
بها. وقيل: تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام. وقيل: أراد أن
يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ
(63)
يخبر تعالى عنهم إنهم رجعوا إلى أبيهم
(قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)
يعنون بعد هذه المرة، إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين، فأرسله معنا نكتل.
وقرأ بعضهم: [يكتل] بالياء، أي يكتل هو،
(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
أي: لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك.