[right]قال أبو جعفر الرازي: خاتم النبوة، فاتح بالشفاعة يوم القيامة.
ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فقيل: اشرب. فشرب منه يسيرًا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فقيل له: اشرب، فشرب منه حتى روي. ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: اشرب فقال: "لا أريده قد رويت". فقال له جبريل [عليه السلام] : أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل.
قال: ثم صعد به إلى السماء فاستفتح، فقيل: من هذا يا جبريل؟ فقال: محمد، قالوا: أوقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. فدخل فإذا هو برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خلق الناس، عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى وحزن، فقلت: "يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء؟ وما هذان البابان؟ " فقال: هذا أبوك آدم [عليه السلام] ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر إلى من يدخل من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخله من ذريته بكى وحزن.
ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا معك؟ فقال: محمد رسول الله. قالوا: أوقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فلنعم الأخ ولنعم الخليفة ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو بشابين فقال: "يا جبريل، من هذان الشابان؟" قال: هذا عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، ابنا الخالة عليهما السلام.
قال: فصعد به إلى السماء الثالثة فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قال: "من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن؟" قال: هذا أخوك يوسف، عليه السلام .
قال: ثم صعد به إلى السماء الرابعة فاستفتح، فقالوا من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل ؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل، فإذا هو برجل، قال: "من هذا يا جبريل؟" قال: هذا إدريس رفعه الله [تعالى] مكانًا عليًا.
ثم صعد به إلى السماء الخامسة فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم، قال: "من هذا يا جبريل؟ ومن هؤلاء حوله؟" قال: هذا هارون المحبب [في قومه] وهؤلاء بنو إسرائيل.
ثم صعد به إلى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء . فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل، فقال: "يا جبريل، من هذا؟" قال: موسى، قال: "فما باله يبكي؟" قال: زعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز وجل، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبي أمته.
قال: ثم صعد به إلى السماء السابعة فاستفتح، فقيل له: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرًا فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص [من] ألوانهم [شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم] فصارت مثل ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم، فقال: "يا جبريل من هذا الأشمط؟ ثم من هؤلاء البيض الوجوه؟ ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء؟ وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاءوا وقد صَفَت ألوانهم؟" قال: هذا أبوك إبراهيم [عليه السلام] أول من شمط على الأرض. وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم. وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فقوم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فتابوا فتاب الله عليهم. وأما الأنهار فأولها رحمة الله، والثاني نعمة الله، والثالث سقاهم ربهم شرابًا طهورًا.
قال: ثم انتهى إلى السدرة فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك. فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. والورقة منها مغطية للأمة كلها. قال: فغشيها نور الخلاق، عز وجل، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة قال: فكلمه الله عند ذلك قال له: سل , قال: "إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكًا عظيمًا، وكلمت موسى تكليمًا، وأعطيت داود ملكًا عظيمًا، وألنت له الحديد، وسخرت له [الجبال، وأعطيت سليمان ملكًا عظيمًا، وسخرت له الجن والإنس والشياطين، وسخرت له] الرياح، وأعطيت له ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل". فقال له ربه عز وجل: وقد اتخذتك خليلا -وهو مكتوب في التوراة: حبيب الرحمن -وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطًا، وجعلت أمتك هم الأولين والآخرين، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلت من أمتك أقوامًا قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقًا، وآخرهم بعثًا، وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعًا من المثاني لم يعطها نبي قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنـز تحت العرش لم أعطها نبيًا قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام، والهجرة، والجهاد، والصدقة، والصلاة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلتك فاتحًا وخاتمًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فضلني ربي بست: أعطاني فواتح الكلام وخواتيمه وجوامع الحديث، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا وقذف في قلوب عدوي الرعب من مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض كلها طهورًا ومسجدًا".
قال: وفرض عليه خمسين صلاة. فلما رجع إلى موسى قال: بم أمرت يا محمد؟ قال: "بخمسين صلاة" قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، عز وجل، فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا. ثم رجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "بأربعين" قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه [عز وجل] فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا، فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "أمرت بثلاثين"، فقال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه [عز وجل] فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى فقال بكم أمرت؟ قال: "أمرت بعشرين". قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه [عز وجل] فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا. فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "أمرت بعشر"، قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع على حياء إلى ربه [عز وجل] فسأله التخفيف فوضع عنه خمسًا. فرجع إلى موسى، عليه السلام، فقال بكم أمرت؟ قال: "بخمس" فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: "قد رجعت إلى ربي حتى استحييت، فما أنا براجع إليه"، قيل: أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات، فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة، فإن كل حسنة بعشر أمثالها. قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا، قال: وكان موسى، عليه السلام، من أشدهم عليه حين مرّ به وخيرهم له حين رجع إليه .
ثم رواه ابن جرير، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبى جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره -شك أبو جعفر-عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه .
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن محمد بن الحسن السَّكُوني البالسي بالرملة، حدثنا علي بن سهل، فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه , وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني، عن جده، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن حاتم بن إسماعيل، حدثني عيسى بن ماهان -يعني أبا جعفر الرازي-عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره .
وقال: ابن أبي حاتم: ذكر أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي -يعني: أبا جعفر الرازي-عن الربيع بن أنس البكري، عن أبي العالية أو غيره -شك عيسى-، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى] ) فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه.
قلت: "أبو جعفر الرازي" قال فيه الحافظ أبو زرعة: "الرازي يهم في الحديث كثيرًا" وقد ضعفه غيره أيضًا، ووثقه بعضهم، والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم.
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَرُ، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به: "لقيت موسى" قال: فنعته فإذا رجل -حسبته قال:-مضطرب، رَجْل الرأس، كأنه من رجال شنوءة. قال: "ولقيت عيسى" -فنعته النبي صلى الله عليه وسلم-ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس -يعني حمام. قال: "ورأيت إبراهيم، وأنا أشبه ولده به". قال: "وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، قيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة -أو: أصبت الفطرة-أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك" وأخرجاه من وجه آخر. عن الزهري -به نحوه .
وفي صحيح مسلم، عن محمد بن رافع، عن حُجَيْن بن المثنى، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، وإذا موسى قائم يصلي، وإذا هو رجل ضربٌ جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه-فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت قال قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، [فسلم عليه] فالتفت إليه فبدأني بالسلام " .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوق فإذا رعد وبرق وصواعق". قال: "وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، فلما نـزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا بِرَهَج ودخان وأصوات، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحرفون على أعين بني آدم ألا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب".
ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، به. ورواه ابن ماجه من حديث حماد، به اضغط هنا .
رواية جماعة من الصحابة [رضي الله عنهم] ممن تقدم وغيرهم:
قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله -يعني الحاكم-أخبرنا عبدان بن يزيد بن يعقوب الدقاق بهمذان، حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني، حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري، حدثنا عمر بن سعد النصري من بني نصر بن قُعَين، حدثني عبد العزيز، وليث بن أبي سليم وسليمان الأعمش، وعطاء بن السائب -بعضهم يزيد في الحديث على بعض-عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس -ومحمد بن إسحاق بن يسار، عمن حدثه عن ابن عباس- وعن سليم بن مسلم العقيلي، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن مسعود -وجويبر، عن الضحاك، ابن مزاحم قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ راقدًا، وقد صلى العشاء الآخرة. قال أبو عبد الله الحاكم: قال لنا هذا الشيخ . . . وذكر الحديث، فكتب المتن من نسخة مسموعة منه، فذكر حديثًا طويلا يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية.
قال البيهقي: فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج كفاية، وبالله التوفيق .
قلت: وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين، رحمة الله عليهم أجمعين.
رواية عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها:
قال [الإمام] البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني مكرم بن أحمد القاضي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي , حدثنا محمد بن كثير الصَّنْعاني، حدثنا معمر بن راشد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! فقال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غَدْوة أو رَوْحة. فلذلك سمي أبو بكر: الصديق، رضي الله عنه .
رواية أم هانئ بنت أبي طالب، رضي الله عنها:
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح باذان، عن أم هانئ بنت أبي طالب [رضي الله عنها] في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي، نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين" .
الكلبي: متروك بمرة ساقط، لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري، عن ضَمْرَة بن ربيعة، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني , عن أبي صالح، عن أم هانئ بأبسط من هذا السياق، فليكتب هاهنا اضغط هنا .
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المُسَاور، عن عكرمة، عن أم هانئ قالت: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي، ففقدته من الليل، فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل، عليه السلام، أتاني فأخذ بيدي فأخرجني، فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار، فحملني عليها، ثم انطلق حتى انتهى بي إلى بيت المقدس، فأراني إبراهيم يشبه خلقه خلقي، ويشبه خلقي خلقه، وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر، شبهته برجال أزد شنوءة، وأراني عيسى ابن مريم رَبْعة أبيض يضرب إلى الحمرة، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي، وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى، شبهته بقطن بن عبد العزى" قال: "وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت". فأخذت بثوبه فقلت: إني أذكرك الله، إنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك، فأخاف أن يسطوا بك. قالت: فضرب ثوبه من يدي، ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس، فأخبرهم ما أخبرني، فقام جبير بن مطعم فقال: يا محمد لو كنت شابا كما كنت، ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا. فقال رجل من القوم: يا محمد، هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: "نعم، والله قد وجدتهم أضلوا بعيرًا لهم فهم في طلبه" .
قال: فهل مررت بإبل لبني فلان؟ قال: "نعم، وجدتهم في مكان كذا وكذا، وقد انكسرت لهم ناقة حمراء، وعندهم قصعة من ماء، فشربت ما فيها". قالوا: فأخبرنا عدتها وما فيها من الرعاة [قال: "قد كنت عن عدتها مشغولا". فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة] ثم أتى قريشا فقال لهم: "سألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاة فلان وفلان، وسألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان، وهي مصبحتكم من الغداة على الثنية". قال: فقعدوا على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال؟ فاستقبلوا الإبل فسألوهم: هل ضل لكم بعير؟ قالوا: نعم. فسألوا الآخر: هل انكسرت لكم ناقة حمراء؟ قالوا: نعم. قالوا: فهل كان عندكم قصعة؟ قال: أبو بكر: أنا والله وضعتها فما شربها أحد، ولا أهراقوه في الأرض. فصدقه أبو بكر [رضي الله عنه] وآمن به، فسمي يومئذ الصديق .
فصل
وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء، عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب.
وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه، عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء. وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات. وهذا بعيد جدًا، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته، ولنقلته الناس على التعدد والتكرر.
قال موسى بن عقبة، عن الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة. وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهرًا.
والحق أنه، عليه السلام أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس، راكبًا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين. ثم أتى المعراج -وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها-فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم عليه الأنبياء [عليهم السلام] الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منـزلتهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، أي: أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله، تعالى، عظمة عظيمة، من فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هنالك جبريل على صورته، وله ستمائة جناح، ورأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه؛ لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار، وفرض الله [عز وجل] عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس؛ رحمة منه ولطفًا بعباده. وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ. ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء. والذي تظاهرت به الروايات أنه بيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدًا واحدًا وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولا مطلوبًا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله، تعالى. ثم لما فرغ من الذي أريد به، اجتمع هو وإخوانه من النبيين [صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين] ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل، أو اللبن والخمر، أو اللبن والماء، أو الجميع -فقد ورد أنه في بيت المقدس، وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون هاهنا وهاهنا؛ لأنه كالضيافة للقادم، والله أعلم.
ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه؟ أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا منامًا، ولا ينكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منامًا، ثم رآه بعده يقظة؛ لأنه عليه السلام كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ والدليل على هذا قوله [عز وجل] ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ) فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، ولو كان منامًا لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظمًا، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم. وأيضًا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقد قال [عز شأنه] ( أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا ) وقد قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الإسراء: 60 ] قال ابن عباس [رضي الله عنهما] هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ليلة أسري به، والشجرة الملعونة: شجرة الزقوم] رواه البخاري. وقال تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [ النجم: 17 ]، والبصر من آلات الذات لا الروح. وأيضًا فإنه حمل على البراق، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه، والله أعلم.
وقال آخرون: بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس؛ أن معاوية بن أبي سفيان [رضي الله عنهما] كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه.
قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولها، لقول الحسن: إن هذه الآية نـزلت وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ولقول الله في الخبر عن إبراهيم: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [ الصافات: 102 ]، ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظًا ونياما.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تنام عيناي، وقلبي يقظان" فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه من الله ما عاين، على أي حالاته كان، نائمًا أو يقظان، كل ذلك حق وصدق. انتهى كلام ابن إسحاق .
وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع، بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم والله أعلم.
فائدة حسنة جليلة:
روى الحافظ أبو نُعَيم الأصبهاني في كتاب "دلائل النبوة" من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عمرو بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دَحْية بن خليفة إلى قيصر -فذكر وروده عليه وقدومه إليه. وفي السياق دلالة عظيمة على وُفُور عقل هرقل-ثم استدعى من بالشام من التجار، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم، كما سيأتي بيانه، وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما يمنعني أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ، ولا يصدقني بشيء. قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قال: فقلت: أيها الملك، ألا أخبرك خبرًا تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا -أرض الحرم-في ليلة فجاء مسجدكم هذا-مسجد إيلياء، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال: وبَطْرِيقُ إيلياء عند رأس قيصر، فقال: بَطْرِيق إيلياء: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر قيصر، وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فغلبني، فلم نستطع أن نحركه، كأنما نـزاول به جبلا فدعوت إليه النجاجرة، فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى. قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية الباب مثقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا. وذكر تمام الحديث .
فائدة:
قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دَحْيَة في كتابه "التنوير في مولد السراج المنير" وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس، وتكلم عليه فأجاد وأفاد-ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي [بن أبي طالب] وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قُرْط، وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين , وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وبريدة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وسمرة بن جُنْدُب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، واعترض فيه الزنادقة الملحدون يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ الصف: 8 ].
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) .
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد، صلوات الله وسلامه عليه , عطف بذكر موسى عبده وكليمه [عليه السلام] أيضًا، فإنه تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام وبين ذكر التوراة والقرآن؛ ولهذا قال بعد ذكر الإسراء: ( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) يعني التوراة ( وَجَعَلْنَاهُ ) أي الكتاب ( هُدًى ) أي هاديًا ( لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا ) أي لئلا تتخذوا ( مِنْ دُونِي وَكِيلا ) أي وليًا ولا نصيرًا ولا معبودًا دوني؛ لأن الله تعالى أنـزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له.
ثم قال: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) تقديره: يا ذرية من حملنا مع نوح. فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي: يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة، تشبهوا بأبيكم، ( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف: أن نوحًا، عليه السلام، كان يحمد الله [تعالى] على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله; فلهذا سمي عبدًا شكورًا.
قال: الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبي حُصَين، عن عبد الله بن سنان، عن سعد بن مسعود الثقفي قال: إنما سمي نوح عبدًا شكورًا؛ لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله .
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بُرْدَة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها".
وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة، به .
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: كان يحمد الله على كل حال.
وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنا سيد الناس يوم القيامة -بطوله، وفيه -: فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك" وذكر الحديث بكماله .
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
يقول تعالى: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي: تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنـزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوًا كبيرًا، أي: يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [ الحجر: 66 ] أي: تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به.
وقوله: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) أي: أولى الإفسادتين ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) أي: سلطنا عليكم جندًا من خلقنا أولي بأس شديد، أي: قوة وعدة وسلطة شديدة ( فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) أي: تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا ( وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا )
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم: من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة: أنه جالوت الجَزَريّ وجنوده، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا )
وعن سعيد بن جبير: أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضًا، وعن غيره: أنه بختنصر ملك بابل.
وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال، إلى أن ملك البلاد، وأنه كان فقيرًا مقعدًا ضعيفًا يستعطي الناس ويستطعمهم، ثم آل به الحال إلى ما آل، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس، فقتل بها خلقًا كثيرًا من بني إسرائيل.
وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولا وهو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث! والعجب كل العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي، رحمه الله، بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.
وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع، من وضع [بعض] زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا، ونحن في غُنْيَة عنها، ولله الحمد. وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم، فاستباح بَيْضَتَهم، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء.
وقد روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بُختنَصَّر على الشام، فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كِبًا، فسألهم: ما هذا الدم؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر. قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم، فسكن .
وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه خلقًا منهم أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها. ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه، لجاز كتابته وروايته، والله أعلم.
ثم قال تعالى: ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) أي: فعليها، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [ فصلت: 46 ].
وقوله: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) أي: المرة الآخرة أي: إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ) أي: يهينوكم ويقهروكم ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ) أي بيت المقدس ( كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي: في التي جاسوا فيها خلال الديار ( وَلِيُتَبِّرُوا ) أي: يدمروا ويخربوا ( مَا عَلَوْا ) أي: ما ظهروا عليه ( تَتْبِيرًا )